والإختلاف في بعض التشريعات ينشأ عن وجود ملاكات اقتضت تلك التشريعات ثم انتفى موضوعها فينتفى معها ذلك التشريع أو يقتضي الملاك الفعلي تشريعاً آخر لذلك يكون المتأخر ناسخاً للتشريع المتقدم | قال ابن كثير: "أي: يبين ما بدّلوه وحرّفوه وأولوه، وافتروا على الله فيه" |
---|---|
وقد قال قتادة في قوله تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب ، قال: التّوراة | إن كل ذلك دفعني إلى إعادة قراءة هذه الكتب، بعيدا عن الأحكام المسبقة وسلطة الفهم الجماعي الموروث |
عليه قوله: جريدة إبراهيم وموسى.
فالكتبُ السماوية يُصدِّق المتأخِّرُ منها المتقدِّم ويؤكِّده، نعم هي تختلفُ من حيث السعة والضيق، فقد يشتمل المتأخِّرُ منها على مضامينَ لم ترد في الكتاب السماويِّ المتقدِّم نظراً لعدم الحاجة إليها في ظرف نزول الكتاب المتقدِّم أو عدم قدرة مَن نزل عليهم الكتاب على استيعابها أو لمنشأٍ آخر اقتضته الحكمةُ الإلهيَّة | ومما تميزت به الشريعة الخاتمة أنها عامة لجميع الناس إلى قيام الساعة، بخلاف الشرائع الأخرى، فهي خاصة بقوم دون قوم، أو فترة دون فترة |
---|---|
فمعنى أنَّ القرآن مهيمنٌ على ما سبقه من الكتب السماويَّة هو أنَّ التشريعات التي تضمَّنها تكون ناسخة للتشريعات الواردة في الكتب السماويَّة السابقة إذا كانت على خلافِ ما ورد في القرآنِ الكريم | ــ الإيمان بأن الله تعالى قد تعهَّد وتكفَّل بحفظ القرآن الكريم من التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِير، قال الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الحجر:9 ، قال ابن كثير: "قرر تعالى أنه هو الذي أنزل الذِكْر، وهو القرآن، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل |
فالزمان هو الوحدة القياسية للتغيير الذي يطرأ على المكان، والمكان هو مقياس للوقت المقطوع في فترة زمنية، لما مضى.
10لا تسمن أو تغني أم لا | وفيما عدا الأصول تختلف الكتب السماوية في الشرائع والأحكام، والثمرة التي يجنيها المسلم من إدراك ذلك استجلاء الحكمة الإلهيّة الشاملة حيث جعل لكل قومٍ ما يُناسب زمانهم ومكانهم وطباعهم، قال تعالى :{ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } المائدة: 48 ، وكان من مقتضى ذلك أن يحدث النسخ بين الكتب السماوية المختلفة، فجاء نسخ التوراة لبعض شرائع الإنجيل ، جاء في الآية الكريمة: { و مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} آل عمران : 50 ، ونسخت آيات القرآن الكثير من الأحكام الواردة في الكتب السماويّة السابقة كما هو معلوم، وهذا النسخ الحاصل بين هذه الكتب يبيّن أن ما كان منسوخاً فخيريّته و نفعه محدد بالزمان الذي كُلّف العباد به في وقته، كما أنه يُظهر التدريج الذي حصل في الأحكام، وإذا كانت شريعة الإسلام نسخت إجمالاً شرائع من كان قبلنا علمنا أن النسخ ليس مما يعسر فهمه داخل شريعتنا أيضا |
---|---|
ودرسٌ آخر يقدّمه الإيمان بالكتب السماويّة، وهو أن من شرائع الدين ما لا يسعنا فيه إلا الإيمان المجمل دون أن نتكلّف في التطلّع إلا ما لا نعلمه من حقائقها وتفصيلاتها، فالله سبحانه وتعالى ذكر لنا في موضعٍ واحد فحسب من القرآن الكريم ما يُثبت لنا تنزّل الكتاب على خليل الله إبراهيم عليه السلام، ذلك هو قوله تعالى: { صحف إبراهيم وموسى} الأعلى:19 ، ولم يقع في أيدينا شيء من هذه الصحف ولا علمنا طرفاً من أخبارها أو شيئاً من محتوياتها، ومع ذلك فإنه لا يسعنا سوى التسليم واليقين بنزولها عاملين بمقتضى الأمر الإلهيّ: { ولا تقف ما ليس لك به علم} الإسراء:36 ، ويُقال مثل ذلك فيما لم يرد فيه من الله خبرٌ كمسألة موطن خروج يأجوج ومأجوج وموعد خروجهم، وبهذا اليقين المنضبط والقائم على التسليم نُجافي مسالك أهل التأويل الذين يحاولون ليّ أعناق النصوص واستنطاقها بما لم تقله ومحاولة ربطها بما يستجدّ من الأحداث ولو لم يكنْ ثمّة رابطٌ حقيقي! | فالقرآن الكريم يتحد مع سائر الكتب السماوية في أصوله العامة ويختلف عنها من جهة استعابه لتمام ما أراده الله لعباده أن يتعرَّفوا عليه إلى آخر الدهر |
وقد جاء في سورة عمران في صيغة مشابهة لذلك في قوله سبحانه وتعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ سورة آل عمران، 84 ، وهذه الكتب السّماوية مختلفة في لغاتها، وشرائعها، لأنّها نزلت على أقوام مختلفين، وبالتالي اقتضى ذلك اختلاف ما يرد فيها من نصوص حسب الحالة، قال الله سبحانه وتعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم سورة المائدة، 48 ، ولكنّ الأساس الذي بُعث فيه الرّسل بهذه الكتب السّماوية ثابت لم يتغيّر 3 ، قال سبحانه وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ سورة الأنبياء،25.